دينى

من دروس تحويل القبلة .. تطهير القلوب وتجديد العهد 

لله عز وجل سُننٌ إلهيةٌ لا تتخلف، وعطايا ربانية لا تنقطع، وفى لحظاتِ الشدائد تأتينا رسائلُ الأملِ ومصابيح الهدايةِ وأبواب الفرج لينهمر علينا غيثهُ وتنفتح لنا بركاته، وكل هذا مرهونٌ بفَهمَ الرسالةِ وقراءة الأحداث بفقه التأمل والتدبر والاتعاظ وربطها بأيام الله التى تتجلى بركاتها.وإذا كُنا فى لحظةٍ شديدةٍ وداءٍ لانتشار الوباء؛ فإننا نُذكر بمنهج أهل الفضل والعلم فى زمن النوازل، ذاك المنهج الذى يَجمعُ بين «التوجيهِ» و«بالتوجه»، ويُقصدُ بالتوجيهِ الأخذَ بالأسبابِ والسعى لتحصيل سُبل النجاةِ والاجتهادِ فى اكتشاف الدواء والالتزام بتعلمات أهل التخصص والتكاتف لمواجهة المحنة بفقه الجسد الواحد والبنيان المرصوص.أما التوجه فمعناه التضرع والدعاء لله – عز وجل – بقلوب خاشعة وأبدان خاضعة وأفئدة متذللة وبحال كله عجز وانكسار وطلب المعونة وتفرج الكرب من الله العلى القهار والولج إليه من اسمه الرحمن والتشفع باسمه الغفار، فيجتمع التوجيه مع التوجه فينهمر العطاء ويزول الوباء، ونفهم الرسالة التى مكمنها «إثبات القيومية» فالله عز وجل (هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ)، وكأن الرسالة (أنا الله).وهنا يأتى السؤال: إذا كانت الرسالة (أنا الله) فيكف تكون الإجابة من عبيد الله؟الإجابة تظهر فى آية توصف حالنا وكأنها شارحةٌ لكل ما نحياه من شدة وابتلاء ومحنة وداء فتأمل قوله تعالي: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِين. الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعون»، فنحن نحيا فى الخوف من تفشى الوباء فخلت الشوارع وأُعلنت حالة الطوارئ فى غالب ربوع العالم، وحل الجوع فى كثير من البلدان ونقص المال والثمرآت، وأصبح العالم على مشارف أزمة اقتصادية طاحنة، وماتت الكثير من الأنفس ورأينا مشاهد للتعامل مع الموتى فى ربوع العالم تنفطر لها القلوب، وعجزت الحيل، وهنا يأتى العطاء الذى مكمنه أن نُعلنها بأننا فهمنا رسالة (أنا الله) وأن الإجابة تكون (إِنَّا لِلّهِ)، وهذا يقتضى منا ونحن نحتفى بذكرى « تحويل القبلة وبليلة النصف من شعبان» أن نربط بينهما وبين ما نحياه، فإذا كان الله – عز وجل – وجه المسلمين ناحية المسجد الأقصى سبعة عشر شهرا.. ثم وجههم بعد ذلك للبيت الحرام فإن من علة ذلك «تصحيح القبلة» فى النفوس، فصورة الكعبة فى أذهان العرب كانت لمئات السنين مقرونة دائما بالصنم، فإذا استدعى أحدهم صورة الكعبة فلا بد أن تتداعى له مقرونة بالأصنام، فكان التحويل لإزالة هذه الصورة الذهنية، فكان التوجه أولا للأقصى لتصحيح النية وإخلاص التوجه لله الواحد الأحد الفرد الصمد، فإذا حولت الوجوه إلى الكعبة بعد ذلك يكون التوجه لله ولم يعد الحجر قرين الصنم، وأصبح التوجه لرب البيت خالصا من كل شائبة.ونحن فى شدة البلاء نحتاج لتصحيح القبلة وندرك «فقه التوجه» ونُحول قبلتنا بفقه جديد ينقلنا من دائرة العصيان إلى دائرة الإيمان، ومن دائرة التمحور حول الأنا والذات إلى دائرة رب الأرباب، ومن دائرة الاستهلاك إلى دائرة الإنتاج، ومن رد الفعل إلى دائرة الفعل.نحتاج لفقه المراجعة وتجديد العهد مع الله، فإذا كان هناك تقويم هجرى يبدأ من المحرم إلى ذى الحجة وتقويم ميلادى يبدأ من يناير إلى ديسمبر، فإن هناك تقويما إيمانيا يبدأ من شهر رمضان وينتهى فى شهر شعبان، لذلك ترفع الأعمال ـ رفعا سنويا ـ فى شعبان، فعن أسامة بن زيد، قال: قلت: يا رسول الله، لم أرك تصوم شهرًا من الشهورِ ما تصومُ من شعبان، قال: «ذلك شهرٌ يغفلُ الناس عنه بين رجب ورمضان، وهو شهر ترفعُ فيه الأعمال إلى رب العالمين، فأحب أن يرفع عملى وأنا صائم».ورفع الأعمال يكون يوميًا فقد جاء فى حديث أبى موسى الأشعرى – رضى الله عنه – قال: «قام فينا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بخمس كلمات، فقال: إن الله – عز وجل – لا ينام، ولا ينبغى له أن ينام، يَخفِض القسط ويَرْفَعه، يُرفَع إليه عملُ الليل قبل النهار، وعملُ النهار قبل الليل..» وأسبوعيًا فى يومى الإثنين والخميس يقول رسول الله – صلى الله عليه وسلم: «تُعرَض أعمال الناس فى كلِّ جمعةٍ مرتين، يوم الاثنين ويوم الخميس، فيُغفَر لكل عبد مؤمن، إلا عبدًا بينه وبين أخيه شَحْنَاء، فيقال: اتركوا هذين حتى يَفِيئا».فما أحوجنا دائما لهذا الفقه فى المحاسبة والتوجه والمراقبة، كما نحتاج فى زمن النوازل والوباء إلى أن نتقرب إلى الله بما تفرَّد به، وأن ننقاد له مذعنين؛ عسى أن يرفع البلاء ويمن بالدواء. وإذا كُنا الآن نقوم بحملات تطهير للمبانى والشوارع للقضاء على وباء « الكورونا » فإننا نحتاج لتطهير أشد للقلوب وللصدور عسى أن يتجلى الله علينا بالفرج فيخرج لنا من الألم أملا ومن الضيق فرجا ومن المحن منحا ويقضى على الوباء ويرزقنا النعماء.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى