نفيسة البيضاء.. جارية ملكت قلوب المصريين وسبيلها الأثري في القاهرة الفاطمية
كتب – زينب غازي
تتمتع ببياض شاهق كالشمع حتى الآن مازال إسمها يذكر في الحي القديم، اسم يتردد رغم آنتهاء عصرها، بسبيل وكتاب، وخلد اسمها على وكالة الشمع، في حي الغورية بالقاهرة الفاطمية.
الجارية نفيسة البيضاء تلك هي صفتها التي عرفت بها، حتى أصبحت سيرة يحكيها أهالي المحروسة عن أم المماليك، الجارية البيضاء التي أتت من بلاد الشراكسة، ليهيم في حبها الرجال.
كانت ذات جمال وذكاء في نفس الوقت استطاعت أن تسير أمور دولة المماليك، منذ عهد علي بك الكبير زوجها الأول وحتى عهد خورشيد باشا، آخر ولاة العثمانيين على مصر الذي أنهى أسطورة الحسناء قاهرة الرجال.
في بدايات القرن الثاني عشر من الهجرة، جاءت الجارية الحسناء إلى مصر، لا أحد يعرف جنسيتها الحقيقية، شركسية ربما، أو جورجية، لكن علامتها المميزة أنها بيضاء صهباء، استطاعت أن تأسر قلب علي بك الكبير، بجمالها وسطوتها، فتحولت الجارية إلى زوجة، تأمر فتطاع، تتمنى فتتحقق الأمنيات، فتنت رجل طائفة المماليك الشراكسة الأول، الذي لم يكن يشغله سوى مشروع استقلال مصر.
لكن الجارية الحسناء سلبته عقله وفؤاده، فبنى لها قصرا في حي الأزبكية، كانت تتقن الشعر بالعربية والتركية، ويقال إنها أتقنت الفرنسية أيضا.
وحدثت مؤامرة كبرى قضت على حلم علي بك، قتل في الشام، في العام 1773، وهو الثمن الذي تعهد به المملوك محمد بك أبو الدهب، لمراد بك، لكي يشاركه في الانقلاب على الرجل الأول.
تزوج مراد بك نفيسة واقترن اسمها باسمه فصارت نفيسة المرادية، فبقدر ما كره المصريون مراد بك بسبب أفعاله، كانت نفيسة على العكس من ذلك، امرأة هام في حبها المصريون، فقد كانت دوما القلب الذي يرشد مراد بك للحق، كانت تعطي الفقراء، وتجير المستضعفين، تعارض فرض الضرائب، ونزعه للأملاك الخاصة.
كانت البيضاء امرأة ذات سيادة مستقلة على أموالها، وذاع صيتها بالغنى وامتلاكها القصور والجواري، وعطائها للمحتاجين، من باب زويلة كانت تدير نفيسة أعمالها من وكالتها، التي أطلق عليها اسمها، واستمرت حتى اليوم.
لم تنس البيضاء المصريين من ريع تجارتها، فمنحتهم سبيلا للسقاية وكتابا للتعليم، كانوا يجاورون وكالتها.
وجاءت الحملة الفرنسية، رغم الحرب التي دارت بين مراد بك وبين نابليون في الجيزة ثم البحيرة، ثم هروب مراد إلى الصعيد واستمرار المواجهات بينه وبين بونابرت، فإن نفيسة حافظت على علاقة ودودة مع الجنرال الفرنسي، حتى أنها كانت تسمح بعلاج الجنود الفرنسيين في قصرها، استضافت بونابرت في قصرها على مأدبة فخمة للعشاء، وأهداها حينها ساعة مرصعة بالألماس.
وفرض عليها نابليون بالرغم من كرمها ناحيته فدية مليون فرنك للاحتفاظ بممتلكاتها والباقي من ثروتها، لكنه حين غادر مصر أعلن أنه سيظل صديقا للأبد لهذه المرأة، ومن قصره الإمبراطوري في باريس كان يرسل للقنصل الفرنسي أن يبقى في خدمتها وطوع أمرها.
بعد وفاة مراد بك بالطاعون في الصعيد، تزامنا مع خروج الحملة الفرنسية من مصر في عام 1801، لُقبت نفيسة في ذلك الوقت بـ”أم المماليك”، لأنها استطاعت أن تحظى بحماية البريطانيين الذين أتوا بحملة فريزر لفترة قصيرة، ثم تهادنت مع العثمانيين لحماية المماليك وأسرهم الذين عادتهم الدولة العثمانية.
تزوجت البيضاء في تلك الفترة من المحتسب على أموال مصر، إسماعيل بك، الذي كان يساعدها في جمع المساعدات للمماليك، حتى قضى نحبه في معركة المماليك البحرية.
ونهايتها لم تكن أبدا مثل بدايتها، فكما كل امرأة قوية حكمت من وراء ستار، أتت نهاية نفيسة بعد اتهام الوالي أحمد خورشيد، الوالي العثماني، لها بالخيانة والتدبير لقلب نظام الحكم، لم تخش نفيسة شيئا ووقفت في قلعته وواجهته قائلة “نفيسة يعرفها الجميع”، سلطانك ورجال دولتك ونساؤها يعرفونني، حتى الفرنسيون أعداؤك وأعدائي يعرفونني ويقدرونني، ولم أر منهم إلا التكريم والاحترام، أما أنت فلا يوافق فعلك فعل أهل دولتك ولا غيرهم”.
اعتقلت نفيسة، وحين حاولت الهرب من محبسها في بيت السحيمي، قبض عليها حتى نسيها الناس، وماتت دون معرفة أين دفنت ولا كيف انتهت حياة النفيسة البيضاء.