ابراهيم سلطان الفردى الحرية الشخصية تنتهي عند حدود حرية الآخرين
لا شك أن الكتابة أمانة ومسؤولية أخلاقية تجاه المجتمع، بما تمثله من أفكار وآراء، وليست لغرض الترف أو التسلية أو الحرية المطلقة في إيذاء الآخرين ، كما أن الحرية لها حدود، وليست بابا مفتوحا دون تحديد، فالحرية الشخصية تنتهي عند حدود حرية الآخرين..لكن تظل قضية الحرية قيمة إنسانية رفيعة إذا ما حصرنا مفاهيم الالتباس في مضامينها، وقد اهتم الإسلام اهتماما كبيرا بحرية التعبير، وأعطى الفكر الإسلامي في مضامينه الكثيرة لحرية التعبير مساحة واسعة، وانطلقت من الرؤية الإسلامية العامة من أن حرية التعبير في الإسلام حق من الحقوق ، وتعتبر واجبة لقول كلمة الحق في ما يصلح الأمة ويرفع شأنها والدفاع عن قضايا الوطن والمواطن بما يحقق المصلحة العامة .ولذلك فإن حرية ” الإنسان في الإعلان عن الرأي الذي توّصل إليه بالنظر والبحث ، وإشاعته بين الناس ، والمنافحة عنه والإقناع به . ولعل ذلك هو الوجه الأهم في حرية الرأي ، وهو المعنِيُّ أكثر من غيره في الاستعمال الشائع ، إذ ما قيمة رأي يبقى حبيس الخاطر ولا يكون له في مجرى الحياة تأثير بأن يتبناه المجتمع ويعمل به ؟ ومن ثم فإن الحرية فيه تعني أن يكون طريقه إلى الناس سالكا بانعدام كل المعوقات التي تعوق التعبير عنه من قبل صاحبه ، أو سيرورته إلى الآخرين ، أو وسائل دعمه والإقناع به . وإن وقع شئ من ذلك فهو يعتبر تقييدا لحرية الرأي، دون أن يكون هذا التعبير من خلال الحرية، اعتداءً على الآخرين وخصوصياتهم والإساءة إليهم، فعندما تكون وسيلة التعبير استخداما مخالفا للقانون،تنعدم الحرية في أهدافها الرائعة .
وهذه للأسف نظرة قاصرة لمعنى الحرية التي ارتفعت بالإنسان إلى قيمته الإنسانية الحضارية الرفيعة..فالحرية ـ كما يقول د/زكي نجيب محمود .. مكسوبة للإنسان ، مرتفعة به عن سائر الأحياء إلى فلك أرفع وأسمى ، وهي حرية مرهونة بفطرته البشرية أولا وبما هو في مقدور تلك الفطرة من “علم” بطبائع الأشياء ، ولقد ألفنا جميعاً ألا نفهم من حرية الإنسان إلا الجانب السلبي وحده ، دون جانبها الإيجابي الذي بفضله تبنى الحضارات وتقام الثقافات ،وجانبها السلبي هو المرحلة الأولى التي تفك فيها القيود ، ويصبح الإنسان بعد ذلك “حراً ” في أن ينطلق إلى حيث شاء ، وهنا يأتي الجانب الإيجابي من الحرية ، فإلى أين ينطلق ، وكيف ينطلق ، وعند هذه النقطة تأتي أهمية المعرفة بطبائع الأشياء ، وعندما أمرنا الله في كتابه العزيز أن نضرب في مناكب الأرض ، وأن نتفكر في خلق السموات والأرض ، كان ذلك التوجيه الإلهي بمثابة إرشادنا إلى الشرط الأساسي الذي بغيره لا تحقق للإنسان حريته بمعناها الإيجابي البناء ، وتلك الحرية – بمفهومها السياسي والإيجابي – هي بدورها المقوم الأساسي لجوهر الإنسان وكرامته ، وهل تكون مسؤولية خلقية بغيرها ، أو يكون الإنسان بدونها حضارة تقام بعلومها وفنونها ونظمها وسائر عناصرها ؟، ويذهب بعض المفكرين المعاصرين ،ومنهم “لافل”، إلى أنه من المهم تحديد حدود الحرية، وإنكار أن تكون مطلقة، لأنها لابد أن تخضع لما في العالم من ضرورة، لكنه يرى أن حريتنا، لا بد أن تقوم على أساس من الضرورة، لأن النشاط الإنساني لا يمكن أن يتحقق، إلا في عالم محدود علينا أن نغالب عوائقه، وأن ننتصر عليها، وهذا الجدل بين الإنسان وما حوله من معطيات، هو الذي تستمد منه الحرية الإنسانية معناها.و أهم ما بيَّنه “لافل” هو قوله بأن الضرورة والحرية ليستا حديث متعارضين، بل هما حدان متماسكان يعبران عن حقيقة واحدة، ذلك لأن العالم كل متماسك أجزاؤه، لا تستطيع أن تنهض بذاتها، أو أن تكتفي بنفسها، ولكنها تتمتع باستقلال حقيقي، حينما تجيء فتأخذ مكانها، في هذا الشكل الشامل.كما جعل الإسلام الاعتقاد والإيمان خاصا بالإنسان واختياره بحريته،دون إجبار أو قهر في أن يعتقد ما يشاء ويؤمن عن بيّنة وإدراك واقتناع من ذاته ، فمفهوم الحرية في الأساس ” يدور حول معنى أساسي،وهو ممارسة الإنسان اختياراته ومراداته دون إكراه،والإسلام دين الفطرة يحمي في الإنسان حريته واختياره ، وأكرم ما يشرف العقل من اختيار هو تبني عقيدة سليمة وإن قصر عقل الإنسان عن ذلك ليس لأحد أن يجبره على تبديله أو تغييره يتبين ذلك من خلال ما يلي :1ـ إن الواقع التاريخي يشهد أن الإسلام قد دافع عن حرية الاعتقاد ، وقد كان حقاً غالياً ثميناً ، كافح المسلمون من أجله في بداية الدعوة في مكة ثلاث عشرة سنة ، يتحملون المشاق في سبيله حتى استقر لهم الأمر في النهاية ، ولما حصل المسلمون على الاستقرار اعترفوا بهذا الحق كاملاً بالنسبة لأصحاب العقائد الآخرة “والتاريخ الإسلامي كله يخلو من أي حادثة فرض المسلمون فيها دينهم بالقوة والإكراه على الرعايا غير المسلمين أو اضطهادهم شعباً لينطق بكلمة أو حرف “وفرض الإسلام على المسلمين أن يحترم بعضها الآخر ، ومنع أن تنقص كل منها من قدر أئمة الآخرين وزعمائهم ، أو أن تلحق بهم الإهانة والسباب وما إليها وقد ورد ذلك في القرآن الكريم أمراً لازماً يعلمنا احترام معتقدات الآخرين وأئمتهم قال تعالى ” ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله ” ( الأنعام :6/108 ) وفتح القرآن الكريم باب الجدال المهذب تطرح من خلاله الآراء والأفكار وتناقش على أسس عقلية واعية دون تحيز أو تعصب قال تعالى ” ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن ” (العنكبوت :29/46 )، فإذا كان هذا مع غير المسلمين، وبهذا التعامل الطيب، فما بالنا بالمسلمين أنفسهم، الذين حرمت أعراضهم ودمائهم، وأموالهم من الاعتداء على بعضهم البعض، وعلى القول الحسن فيهم الخ.، للأسف فإن البعض يستخدم الحرية، استخداما مضادا للحرية نفسها ، عندما يعتدي على حرية الآخرين، باسم الحرية، ومنطلقاتها الرائعة، فهنا لا تستقيم مضامين الحرية في أن تكون عدوانا على حرية الآخرين، في حياتهم، وذواتهم،قذفا وسبا، بل أنها لا تكون هذه حرية من الأساس إذا ما أردنا أن نحدد ما هى الحرية، بل إنها تنعدم في أن تتقلد هذه القيمة العظيمة في أهدافها في الحياة الإنسانية.ومن هنا نعتقد أن حرية التعبير على إطلاقها،وتتعدى إلى حقوق الآخرين وحياتهم غير مقبولة،ومرفوضة تماما اجتماعيا وقانونيا، وستتصادم مع الأنظمة والقوانين حتما، لأن الحرية مسؤولية أيضا، تمس حريات الآخرين.