الأزمة والحوار مرة أخرى
فى الأوقات الصعبة تحتاج الدول باختلاف ظروفها وتحدياتها أن تواجه أزماتها بشجاعة وتتدبر مستقبلها بوضوح.أول مقتضيات أية مواجهة جدية أن تعترف بالأزمة التى تعترضها، طبيعتها وأسبابها
أن تضع يدها على الجرح النازف حتى يمكن تطهيره بأقل قدر ممكن من الألم العام.الاعتراف بالأزمة نصف الطريق إلى تجنب أى أخطار محتملة تنال من البلد كله، أمنه ومستقبله
إذا لم يكن هناك اعتراف بالأزمة يهدر الوقت فيما لا يجدى ويفيد كأننا فى انتظار عواصف الحوادث دون أى مصدات تحمى وتصون
الحوار الوطنى يكتسب ضروراته من شجاعة الاعتراف بالأزمة لا من عصبية إنكارها.فكرة الحوار استدعتها ظروف وتحديات بعينها، الإنكار فعل سلبى يقطع الطريق على الحوار قبل أن يبدأ
.وإذا لم يستجب الحوار الوطنى إلى ضرورات الوقت قد يفقد دوره السياسى فى الانتقال من حال أزمة إلى حال انفراج.
منذ أن أطلق الرئيس «عبدالفتاح السيسى» دعوته للحوار الوطنى فى إفطار الأسرة المصرية قبل أربعة أشهر بالضبط لم يتقدم الحوار الفعلى خطوة واحدة إلى الأمام انتظارا للانتهاء من الإجراءات التنظيمية، التى أخذت وقتا طويلا نسبيا لا تحتمله الظروف والتحديات وضرورات بناء تماسك وطنى بالحوار الحر
أفضل ما ينسب لدعوة الحوار الوطنى حتى الآن مخرجاتها غير المباشرة، التحسن الملموس رغم محدوديته فى البيئة العامة، شىء من رد اعتبار السياسة بعد سنوات طويلة من الجفاف والإغلاق، الإفراجات الواسعة نسبيا لمسجونى الرأى دون أن يغلق الملف نهائيا حتى الآن
.كان ذلك تطورا إيجابيا ضخ حيوية لافتة فى مشروع الحوار العام، الذى استقطب حماسا للمشاركة فيه، نشأت تباينات بين القوى السياسية وداخل التيار الواحد، لكن لم يناهض أحد فكرة الحوار من حيث المبدأ.كانت تلك إشارة نجاح مبكرة.اللافت هنا
أن الاستغراق أكثر من اللازم فى الإجراءات التنظيمية وتشكيل اللجان سحب على المكشوف من رصيد الحماس العام وارتفع بالتدريج منسوب الشك فى جدية الحوار الوطنى ومستوى الالتزام بمخرجاته
كان ذلك واضحا فى درجة اهتمام الإعلام الغربى بالحوار الوطنى فى مصر حتى قيل بصراحة من بعض كبار الصحفيين العالميين: «لن نشارك فى خدعة!».
الحقيقة أنها ضرورة لا خدعة، غير أن الأداء الإعلامى لم يكن مقنعا أن هناك شيئا جديدا يتحرك فى مصر، قليل من الحوار وكثير من الدعاية!هذا آخر ما تحتاجه مصر إذا ما أرادت أن تتجاوز أزمتها الماثلة بالحوار العام، المقنع والمنتج والقادر بنفس الوقت على بناء التماسك الوطنى الضرورى لصد أى أخطار، أو انفجارات اجتماعية لا يمكن استبعادها.
إذا ما كانت الأزمة ضاغطة ومنذرة، حسب التقارير الاقتصادية الدولية المتواترة، فإن استهلاك الوقت، أيا كانت الأسباب والدواعى لا يساعد على حلحلتها، بل قد يفاقمها.مواجهة الحقيقة شرط ضرورى لجدية أى حوار وطنى.خلال العام الحالى (2022) ترددت فى أنحاء مختلفة من العالم العربى دعوات مماثلة شملت: السودان وتونس والعراق ولبنان وموريتانيا والجزائر تحت مسمى «لم الشمل».. وليبيا واليمن بصورة أخرى بأوضاع هدنة سلاح هشة
.رغم اختلاف الظروف والتحديات ودرجات الجدية بين دولة وأخرى فإن دعوات الحوار الوطنى بذاتها تعكس درجة من الإدراك بعمق ما تتعرض له من أزمات بعضها من طبيعة الدولة وبعضها طارئ بفشل السياسات
.فى مصر الأمور، بالقياس على أوضاع دول عربية أخرى، أقل حدة فى مستوى الخطر وأكثر تهيؤا على مستوى الفرص لتجاوز أزمتيها الجوهريتين.
الأولى، أزمة السياسات والخيارات الاقتصادية وما أفضت إليه.. وهذه لا تحتمل إهدار الوقت وتستدعى اجتماعا عاجلا يضم نخبة الاقتصاديين المصريين لوضع تصور يمنع أى تدهور اقتصادى واجتماعى يفلت الأمن بعده وتنفلت الجريمتان الجنائية والإرهابية عن أى عقال.
يستلفت النظر ــ هنا ــ تسارع الإجراءات الاقتصادية دون انتظار لأى مخرجات للحوار الوطنى
أسوأ ما قد يحدث إذا ما اتخذت إجراءات اقتصادية جديدة تنال بقسوة من الطبقة الوسطى والفئات الأكثر فقرا وعوزا بضغط من صندوق النقد الدولى أن أحدا لا يعرف ما قد يحدث فى اليوم التالى
.المشاركة بالتفكير والاجتهاد من ضرورات وقف النزيف الاقتصادى وحماية الأملاك العامة من بيعها لتسديد استحقاقات الديون المتراكمة
.إدخال الرأى العام طرفا مباشرا قد يستنهض فى البلد تحديا وجوديا يستبعد الصندوق واشتراطاته القاسية عن جدول الأعمال ويبحث فى حلول أخرى، فمصر ليست دولة صغيرة ولا شعبها قاصرا عن إدراك حجم الأخطار التى تعترض حياته ومستقبله
الأزمة الثانية الجفاف السياسى والتضييق على المجال العام.. وهذه تحتاج إلى مراجعة عند الجذور للوسائل والأجواء والتبعات وانتهاج نظرة أخرى بالانفتاح السياسى وتحسين البيئة الإعلامية وتوسيع المشاركة السياسية ووضع قوانين انتخابية جديدة تضمن تمثيلا حقيقيا فى البرلمان للمجتمع المصرى.المهم أن تتوفر الإرادة السياسية ويتسع الإدراك العام أن التغيير ضرورة نظام وحاجة بلد لم يعد ممكنا حكمه بالطرق القديمة.
هكذا بكل وضوح إذا ما أردنا أن نتصارح بالحقائق.من مصلحة مصر أن يكون هناك حوار وطنى جدى لا يستهلك وقتا إضافيا فى مزيد من الإجراءات التنظيمية وتشكيل اللجان أن يدخل فى موضوعه، وتنقل نقاشاته عبر شاشات التلفزيون، حتى يوضع الرأى العام فى الصورة الكاملة ويستشعر أن هناك شيئا جديدا يتحرك فى البلد، وأن هناك أملا فى تحسين الأحوال.
إذا ما أردنا للأمل أن يتحرك، وللحوار أن يأخذ صدقيته وحرمته، فلا بد أن تتسع الصدور لكل رأى واجتهاد دون استنطاق النصوص بعصبية زائدة
بصيغة أخرى فإن البلد كله يحتاج أن يضع على رأسه المحموم بالمخاوف كمادات ثلج حتى يستطيع أن يتدبر مستقبله ومصيره برشد وتبصر بعيدا عن نظريات المؤامرة